بريق شمس

معظم الناس ينظرون إلى الأشياء التي تحدث ويقولون لماذا ؟ أما أنا فأنظر إلى الأشياء التي لم تحدث بعد وأقول لما لا

يوم عظيم في نابلس !

كانت زيارة سريعة إلى مدينة  نابلس أو "دمشق الصغيرة" كما سماها ابن بطوطة ، كان هدفها الأساسي مناقشة رواية "الضوء الأزرق" للكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي في جامعة النجاح مع الفريق المميز أسفار!
كان يوماً مذهلاً ..
 وسأشعر بسعادة أكبر عندما أشاركم بعض الخواطر التي عشتها في تلك المدينة الساحرة ..


الطريق إلى نابلس




مع ساعات الصباح الباكر انطلقت السيارة من رام الله إلى نابلس الخضراء !
الطريق إلى نابلس مليء بالخَضار والحياة .. تجد نفسك محاطاً بكل ما هو أخضر ... أنت في السيارة والجبال حولك من كل مكان ..


للحظة وبدون وعي تجد روحك تغني : " يا بلادي يا أحلى بلاد .. وانا مهما شفت بلاد ريحة أرضك بعروقي" .. تقولها بغصة استوطنت جسدك المتعب من اليوم الذي دخل فيه أول صهيوني إلى هذه البلاد (أي قبل أن تولد) .. بدمعة تأبى أن تسقط حتى لا تعكر صفو كل هذا الجمال !!


كنت أتابع قراءة الفصل الأخير من رواية (الضوء الأزرق) .. عين على الرواية وعين على النافذة .. أقرر في لحظة أن أغلق الرواية خوفاً من أن يضيع علي شيء من ذلك الجمال .. ثم يعود جنون حسين البرغوثي ليشدني مرة أخرى للرواية فأفتحها وأقرأ!


وعند جبل أخضر كان يقترب مني وكنت أقترب منه شعرت بشعور عجيب .. شعرت برغبة جامحة بأن أمسك الفأس وأذهب للعمل مع الفلاحين !! كنت أشعر برغبة عجيبة في أن أغمر يديّ وقلبي ووجداني بالتراب كما كان يفعل أجدادي .. تمنيت أن استنشقه ولو للحظة .. كنت أخشى أن تشق شرايني يوماً فلا يجدوا بداخلها تراب ! ..


فالتراب حلقة وصل بين الأرض والإنسان ... ومن حافظ على هذه الأرض لأكثر من 60 عاماً لا شك بأن جسده كان مملوء بالتراب..


كان صوت "ميسون مناصرة" يملأ أجواء السيارة :) ولكنني لم أكن أسمعه .. كنت مستمتعة في الغرق بصوت الكون في الخارج ! وفي لحظة ما رأيت طائراً يحلق في السماء ... شعرت بأنني أرى صورة معلقة على قلبي من الداخل منذ كنت "أنا" ... شاهدت نفسي في الأعلى .. ابتسمت ...


تذكرت في لحظتها اقتباس من الرواية يقول "إن قوة ضربتك ترتبط بقوة قناعتك أنت بها " .. رددتها في ذهني عدة مرات حتى ارتويت..


تابعت القراءة والتأمل .. عين على الرواية وعين على النافذة ..
حتى توقفت السيارة ونزلنا ..
لأجد بعدها ابتسامة غيداء من بعيد..
ولتبدأ بعد تلك اللحظة جولتنا معاً ..


......................................................


نابلس تروي قصة أجدادي ..




بعد أن التقيت بصديقتي غيداء قررنا أن نبدأ جولتنا في رحاب السوق القديم في نابلس ..
للحظة تشعر بأنك تسير في سوق خان الزيت في القدس ! وفي لحظة أخرى تشعر بأنك تسير في أحد أسواق مسلسل باب الحارة السوري ...
كنا نتأمل المحلات وابتسامة أصحاب الدكاكين الطيبين ونتحدث في الكثير من المواضيع الدسمة!


بدأنا النقاش ببعض ما ورد في رواية " الضوء الأزرق" ثم انتقلنا إلى نقاش بعض ما ورد في كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة " لنحاول فك شيفرة د.عبد الحليم زيدان " وينكم يا بنات على خشبة المسرح؟ "، ثم تحدثنا قليلاً عن الزواج النهضوي :)  وعن بعض طقوس التربية في مجتمعاتنا الشرقية ..


كنا نسير بدون وجهة على أي حال .. وفجأة استوقفنا دكان قديم مليء ب .. بأنفاس جدي وجدتي !!


ابتسم أبو راشد في وجوهنا ثم قال: " تعالوا .. تعالوا .. لازم تشوفوا .. لازم تعرفوا "، وبدأ يتحدث "هذه الحنفية عمرها 100 سنة .. وهذا مفتاح العودة .. وهذا تمساح محنط ! وهذه إكسسوارت العروس " إن شاء الله بلبسكم العريس !! :) " ، هذه هدايا كان يحضرها الطلاب أيام الاتحاد السوفيتي ، وهذا راديو قديم وهذه عملة قديمة قبل الثمانية وأربعين .. أنظروا مكتوب عليها 1939 ! .. وهذا مجسم لسعد زغلول ، وتلك علبة توفي قديمة .. وبهذه الآنيات كانت ستك وستها يعصروا البندورة ويصفوها ! ".


شعرت للحظة بأنني ألتقي بأجدادي .. شعرت بأرواحهم .. أخذت أمسك الأشياء .. أصور وأصور وألمس كل ما يقع أمامي .. ثم أسمع العم يتحدث مع غيداء فأعود وأستمع حتى لا يفوتني أي شيء ..


سألته: من يشتري هذه الأمور ؟ أقصد يا عم القطع هنا غالية الثمن .. هل من يشتريها هم أصحاب الطبقات ؟
قال لي من يشتري قسمان : الأشخاص المرتاحين مادياً .. والأشخاص الذين يقدرون قيمة هذه الأمور فيفضلوا أن يشتروها حتى لو ناموا بدون عشاء !!


بقينا على هذا الحال ربما نصف ساعة .. لا أريد أن أغادر .. ولا غيداء تريد  !!
ولكن التاريخ لا ينتظر .. لا يتوقف .. ولا يمهل أحداً ..


ودعنا أبو راشد .. وانطلقنا ...


ولا أعرف على وجه التحديد هل ودعنا أبا راشد أم ودعنا قصص تشهد على أن هذه الأرض لأجدادي !!
لأجدادي وفقط ...









......................................................


إيش بتدرسوا ؟


من المثير في جولتنا بنابلس أننا كلما دخلنا إلى مصنع أو دكان أو سوق سألنا البائعون :
"إنتو بتدرسوا بالنجاح ؟ "، ثم السؤال الثاني مباشرة :"ايش بتدرسوا ؟ ".


-فأجيب أنا : " آي تي \ إدارة نظم معلومات ".
- ممم آي تي ، بنتي هيك درست أو ممم الله يوفقك يا عمي ..
-تجيب غيداء بعدها : "أنا سنة تانية طب "..
-ترى بلحظتها الوجوه تتهلل :"طب ..طب .. ماااا شااااء الله !!".
-ننظر أنا وغيداء بعدها إلى بعضنا بابتسامة تعني "آآخ منك يا هل مجتمع"..


ثم أقول في عقلي .. في اليوم الذي يدخل به طالب الفنون أو الفلسفة أو علم النفس أو الصحافة أو "الآي تي " !! إلى نفس المحلات وتتهلل الوجوه بنفس الطريقة ..


يومها فقط سأدرك بأننا في عصر النهضة !

......................................................

اقتباسات أعجبتني من الرواية  المجنونة "الضوء الأزرق" 




 "ومن امتيازات العقل الأعلى أن يسيطر على العقل الأدنى، إن لم يكن عقلك دونياً، لا يجب أن تخشى  من السيطرة، وإن كان أدنى منّي، فمن امتيازاتي السيطرة عليه، وتستطيع أن ترحل ".



" أن تتأمل  نفسك يعني أن تفهم ما كنت تعرفه دائماً من غير أن تفهمه".




تناول قلم الرصاص وكتب على ظهر القصيدة:
"الحياة لعبة شطرنج .. ذهنك فيها الرقعة، والحجارة، واللاعبون، واللعبة، والقاعدة .. فافهم .. وإلا، فإنك أبله في تمام الساعة الواحدة".


" من لم يغيّرني بعمق .. لم يحيّرني بصدق".



-ميّز الذهن عن محتواه يا حسين !
-وما الفرق بين الذهن ومحتواه؟
-كان أمامه صحن كبير أبيض فيه بقايا بيض مقلي، وأعقاب سجائر، وفتات خبز فرنسي. قبض على حافة الصحن بنوع من الاشمئزاز، ورمى بكل ما فيه من بقايا على الموكيت الأزرق بقربي، ثم رمى الصحن الفارغ على الطاولة، وقال مؤشراً إليه: "هذا هو الذهن".
وأشار إلى بقايا البيض والسجائر والخبز على الموكيت، وأكمل: "وهذا هو المحتوى! ".



"اسمع يا رجل: الحياة نهر وكل يغترف منه بحجم فنجانه ..فنجانك صغير ! ".



"الإنسان هو تجربته".



"يا رجل ! في كل ذهن تسبح الافكار وتبقى نتف : بين الفكرة الأولى وبين الفكرة الأخرى هناك الكثير لكي يكتشف" . وهزّ إصبعه، كمن يقول إنّه يعني ما يقول، ثّم مضى.



"هناك كلمات تملأ الرأس بمحتواها، وكلمات تفرّغه من محتواه، والأخيرة أجمل".



"لا يقاس الإنسان بمنجزاته، بل بما يتوق إليه".جبران



"إن قوة ضربتك ترتبط بقوة قناعتك أنت بها".



"إرادتك أنت الأهم، وستكون، انتظر يا بنيّ، ستكون، أقسم بالذي مرج البحرين بينهما برزخ فهما لا يلتقيان ستكون حرّاً، يوماً ما، بإرادتك أنت، ولا شيء آخر.هذه هي قسمة الآلهة للمحاربين: الغنائم".



-ولم لا تكتب ؟
-لأنني أعيش يا رجل !


-الذهن له تصميم معين، ككل كيان آخر في الكون، وهو كيان قادر على أن يعيد تصميم نفسه وعالمه.
-ما هو الذهن؟
-مسّجل. كل ما يمر معك وفيك يسّجل فيه !



"الذهن المتنور كالشمعة تنقل نورها لأية شمعة أخرى وليس ينقص رغم ذلك نورها".



لم أر إلهاماً في شمعة تنقل فقط، نورها لغيرها. الذهن الذي ينقل أو يحفظ يصاب بالشلل إن فقد ماهيته. وأزمة الذهن العربي أنه فقد هذا بالضبط: قدرته على الخلق! لا أعني فقط، قدرته على خلق عالمه، وتصميم الدنيا التي يحيا فيها، بل، وهذا أهم، قدرته على تصميم نفسه، على إعادة الصياغة، على أن يكون عنده جديد كل ليلة ، وكل ذهن فقد قدرته على تصميم نفسه سيقوم غيره بتصميمه !



"حسين ، إن شخصاً لا يعطيني معرفة ، ولا يوسع مداركي ، ولا يأخذ مني معرفة ويوسع مداركه، شخص لا حاجة لي به".



ليلتها جاءني "دون" على بيتي، لحيته تقطر مطراً وهيئته يرثى لها ، وفي يده حلقة خشبية متسخة ومبلولة.
فناولني حلقة الخشب قائلاً:
"هذه هدية لك، وجدتها في صندوق القمامة".
"وما هي دون ؟".
"خذها .. هذه هي العقل.. دائرة من 360 زاوية، وبين كل زاوية وأخرى زوايا لا نهائية".
"نعم، زوايا لا نهائية، دون، ولكن ما دخل ذلك بالعقل؟".
 قال: "كل زاوية طريقة نظر إلى الدنيا وإلى الحياة، تعلم من هذه الخشبة أن ترى دائرياً، ب 360 درجة، أقعد في الفراغ الذي في الوسط ، وانظر دائرياً، وابق قاعداً في الفراغ".
واختفى ثانية في العتم والمطر، لينام في الشارع ..



."عندما يستولي العقل على الروح، يجف القلب، يا رجل أنت جاف"


......................................................


طريق العودة 


انتهت الزيارة وحان وقت الوداع ... وقبل الإنطلاق في رحلة  العودة مشينا في شارع رفيديا ونحن نشرب الكوكتيل النابلسي اللذيذ ! ونتحدث في مواضيع دسمة أيضاً ..




انطلقت السيارة ... وضوء القمر الأزرق يبتسم لي بود ..  وضعت رأسي على النافذة وذهبت لأعيش قليلاً هناك ..
 في عالمي وحدي ..
حيث لا يوجد إلا أنا وأحلامي !


بقلم..
آلاء سامي 

الأحد 26 فبراير 2012 - 3 ربيع ثانى 1433  





2 التعليقات:

shazaissa 6 أبريل 2012 في 12:05 م  

ماهذا الابداااع!!!

بورك قلمك ...

جميل أسلوبك في السرد والوصف: )

من أجمل مايميز نابلس ... انتماء أهلها لها وحرصهم على رقيها وترى في الحضارة والعراقة شامخة للعلى راسخة جذورها في عمق الأرض...

غير معرف 17 يونيو 2012 في 11:53 ص  

نابلس من أرقى وأجمل المدن التي رأيتها. كُل ما كُتب رائع لكن هُناك جملة استوقفتني كثيراً وأحببتها جداً جداً :
"ثم أقول في عقلي .. في اليوم الذي يدخل به طالب الفنون أو الفلسفة أو علم النفس أو الصحافة أو "الآي تي " !! إلى نفس المحلات وتتهلل الوجوه بنفس الطريقة ..
يومها فقط سأدرك بأننا في عصر النهضة !"

أفنان درويش

إبحث في بريق شمس



Leave the world a little better than you found , take no more than you need , try not to harm life or environment...

مدونة بريق شمس. يتم التشغيل بواسطة Blogger.
  • التاريخ خارطة البشرية التي تثرثر كثيراً عن أولئك الذين صنعوه ... ولا يمكن أن نتجاهل أبداً تلك الوجوه التي نحتت على الصخر صورها بينما كان البقية يتأملون وجوههم على صفحة الماء ! .. علا باوزير


    التدوين : هو أن تنظر إلى حدث عادي بنظرة غير عادية فتصنع منه حدثاً غير عادياً

    قال تعالى : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "
  • مدونة لكل شباب النهضة ... لكل الشباب الذين قرروا أن يكونوا متميزين بدينهم وعلمهم وإبداعاتهم
    كل التحية والاحترام لكم
    آلاء سامي

حياتي كلها مهر لأمتي

حياتي كلها مهر لأمتي

إهداء من الصديقة نادية درويش

إهداء من الصديقة نادية درويش
:) من على متن الكتاب .. ومن أمام الشمس

يقظة فكر - معانقة الفكر مع الفن -

" هدية من فريقي المميز "عائلة إبداع

" هدية من فريقي المميز "عائلة إبداع
نرى ما لا يراه الآخرون

إعلام ينبض شباباً

إعلام ينبض شباباً
شارك لننقل الإعلام نقلة جديدة تمثلنا

أكاديمية إعداد القادة ... خطوة للأمام

" أبي الروحي " د.مصطفى محمود

" أبي الروحي " د.مصطفى محمود
كلمات هذا الرجل تدهشني

! قلمي يكتب هنا أيضاً

! قلمي يكتب هنا أيضاً
.أول مجلة تكنولوجية تصدر بالعربية في فلسطين

Facebook مدونتي على موقع ال


المتابعون

... إقرأ أيضاً

..بقلم

صورتي
اللهم إجعلني من مُجددات الأمة ... اللهم واجعل كلماتي تصل إلى الآفاق ~

عدد المشاهدات

أرشيف المدونة